.النَّوْعُ التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي مُطْلَقِهِ وَمُقَيَّدِهِ:
الْمُطْلَقُ: الدَّالُّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ بِلَا قَيْدٍ وَهُوَ مَعَ الْقَيْدِ كَالْعَامِّ مَعَ الْخَاصِّ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَتَى وُجِدَ دَلِيلٌ عَلَى تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ صُيِّرَ إِلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا، بَلْ يَبْقَى الْمُطْلَقُ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَالْمُقَيَّدُ عَلَى تَقْيِيدِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَنَا بِلُغَةِ الْعَرَبِ.وَالضَّابِطُ أَنَّ اللَّهَ إِذَا حَكَمَ فِي شَيْءٍ بِصِفَةٍ أَوْ شَرْطٍ ثُمَّ وَرَدَ حُكْمٌ آخَرُ مُطْلَقًا، نُظِرَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ يُرَدُّ إِلَيْهِ إِلَّا ذَلِكَ الْحُكْمَ الْمُقَيَّدَ وَجَبَ تَقْيِيدُهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ يُرَدُّ إِلَيْهِ غَيْرَهُ لَمْ يَكُنْ رَدُّهُ إِلَى أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنَ الْآخَرِ.فَالْأَوَّلُ: مِثْلَ اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي الشُّهُودِ عَلَى الرَّجْعَةِ وَالْفِرَاقِ وَالْوَصِيَّةِ فِي قَوْلِه:
{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطَّلَاق: 2]، وَقوله:
{شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الْمَائِدَة: 106].وَقَدْ أَطْلَقَ الشَّهَادَةَ فِي الْبُيُوعِ وَغَيْرِهَا فِي قَوْلِه:
{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [الْبَقَرَة: 282]،
{فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النِّسَاء: 6]، وَالْعَدَالَةُ شَرْطٌ فِي الْجَمِيعِ.وَمِثْلُ تَقْيِيدِهِ مِيرَاثُ الزَّوْجَيْنِ بِقَوْلِه:
{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النِّسَاء: 11]، وَإِطْلَاقُهُ الْمِيرَاثَ فِيمَا أَطْلَقَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ مَا أَطْلَقَ مِنَ الْمَوَارِيثِ كُلِّهَا بَعْدَ الْوَصِيَّةِ وَالدَّيْنِ، وَكَذَلِكَ مَا اشْتَرَطَ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ مِنَ الرَّقَبَةِ الْمُؤْمِنَةِ وَإِطْلَاقِهَا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ وَالْمُطْلَقُ كَالْمُقَيَّدِ فِي وَصْفِ الرَّقَبَةِ.وَكَذَلِكَ تَقْيِيدُ الْأَيْدِي بِقَوْلِهِ
{إِلَى الْمَرَافِقِ} [الْمَائِدَة: 6] فِي الْوُضُوءِ وَإِطْلَاقُهُ فِي التَّيَمُّمِ.وَتَقْيِيدُ إِحْبَاطِ الْعَمَلِ بِالرِّدَّةِ بِالْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ فِي قَوْلِه:
{مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 217]، وَأُطْلِقَ فِي قَوْلِه:
{وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [الْمَائِدَة: 5]، وَتَقْيِيدُ تَحْرِيمِ الدَّمِ بِالْمَسْفُوحِ فِي الْأَنْعَامِ وَأُطْلِقَ فِيمَا عَدَاهَا.فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيُّ حَمُلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي الْجَمِيعِ.وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ لَا يَحْمِلُهُ، وَيُجَوِّزُ إِعْتَاقَ الْكَافِرِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ، حُكْمُهُ وَيَكْتَفِي فِي التَّيَمُّمِ بِالْمَسْحِ إِلَى الْكُوعَيْنِ، وَيَقُولُ: إِنَّ الرِّدَّةَ تُحْبِطُ الْعَمَلَ بِمُجَرَّدِهَا.وَالثَّانِي: مِثْلُ تَقْيِيدِ الصَّوْمِ بِالتَّتَابُعِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ، وَتَقْيِيدِهِ بِالتَّفْرِيقِ فِي صَوْمِ التَّمَتُّعِ، وَأَطْلَقَ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ وَقَضَاءَ رَمَضَانَ، فَيَبْقَى عَلَى إِطْلَاقِهِ مِنْ جَوَازِهِ مُفَرَّقًا وَمُتَتَابِعًا، لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِمَا لِتَنَافِي الْقَيْدَيْنِ، وَهُمَا التَّفْرِيقُ وَالتَّتَابُعُ وَلَا عَلَى أَحَدِهِمَا لِعَدَمِ الْمُرَجِّحِ.تَنْبِيهَاتٌ:الْأَوَّلُ: إِذَا قُلْنَا: بِحَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، فَهَلْ هُوَ مِنْ وَضْعِ اللُّغَةِ أَوْ بِالْقِيَاسِ؟ مَذْهَبَان:وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْعَرَبَ مِنْ مَذْهَبِهَا اسْتِحْبَابُ الْإِطْلَاقِ اكْتِفَاءً بِالْمُقَيَّدِ، وَطَلَبًا لِلْإِيجَازِ وَالِاخْتِصَارِ.الثَّانِي: مَا تَقَدَّمَ مَحَلُّهُ إِذَا كَانَ الْحُكْمَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا فِي الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ.فَأَمَّا إِذَا حَكَمَ فِي شَيْءٍ بِأُمُورٍ ثُمَّ فِي آخِرَ بِبَعْضِهَا، وَسَكَتَ فِيهِ عَنْ بَعْضِهَا فَلَا يَقْتَضِي الْإِلْحَاقَ؛ كَالْأَمْرِ بِغَسْلِ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ فِي الْوُضُوءِ، وَذَكَرَ فِي التَّيَمُّمِ عُضْوَيْنِ، فَلَا يُقَالُ بِالْحَمْلِ وَمَسْحِ الرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ بِالتُّرَابِ فِيهِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْعِتْقَ وَالصَّوْمَ وَالْإِطْعَامَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَاقْتَصَرَ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ عَلَى الْأَوَّلَيْنِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْإِطْعَامَ. فَلَا يُقَالُ بِالْحَمْلِ وَإِبْدَالِ الصِّيَامِ بِالطَّعَامِ.
.النَّوْعُ الْخَمْسُونَ: فِي مَنْطُوقِهِ وَمَفْهُومِهِ:
.الْمَنْطُوقُ:
الْمَنْطُوقُ: مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، فَإِنْ أَفَادَ مَعْنًى لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ فَالنَّصُّ، نَحْوَ:
{فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [الْبَقَرَة: 196]، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ قَوْمٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُمْ قَالُوا بِنُدُورِ النَّصِّ جِدًّا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَقَدْ بَالَغَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، قَالَ: لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ النَّصِّ الِاسْتِقْلَالُ بِإِفَادَةِ الْمَعْنَى عَلَى قَطْعٍ مَعَ انْحِسَامِ جِهَاتِ التَّأْوِيلِ وَالِاحْتِمَالِ، وَهَذَا وَإِنْ عَزَّ حُصُولُهُ بِوَضْعِ الصِّيَغِ رَدًّا إِلَى اللُّغَةِ فَمَا أَكْثَرَهُ مَعَ الْقَرَائِنِ الْحَالِيَّةِ وَالْمَقَالِيَّةِ. انْتَهَى.أَوْ مَعَ احْتِمَالِ غَيْرِهِ احْتِمَالًا مَرْجُوحًا فَالظَّاهِرُ، نَحْو:
{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} [الْبَقَرَة: 173]، فَإِنَّ الْبَاغِيَ يُطْلَقُ عَلَى الْجَاهِلِ وَعَلَى الظَّالِمِ، وَهُوَ فِيهِ أَظْهَرُ وَأَغْلَبُ، وَنَحْو:
{وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [الْبَقَرَة: 222]، فَإِنَّهُ يُقَالُ لِلِانْقِطَاعِ طُهْرٌ، وَلِلْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَهُوَ فِي الثَّانِي أَظْهَرُ، وَإِنْ حُمِلَ عَلَى الْمَرْجُوحِ لِدَلِيلٍ، فَهُوَ تَأْوِيلٌ، وَيُسَمَّى الْمَرْجُوحُ الْمَحْمُولُ عَلَيْهِ مُؤَوَّلًا كَقَوْلِه:
{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الْحَدِيد: 4]، فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ حَمْلُ الْمَعِيَّةَ عَلَى الْقُرْبِ بِالذَّاتِ فَتَعَيَّنَ صَرْفُهُ عَنْ ذَلِكَ، وَحَمْلُهُ عَلَى الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ أَوْ عَلَى الْحِفْظِ وَالرِّعَايَةِ.وَكَقَوْلِه:
{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الْإِسْرَاء: 24]، فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ حَمْلُهُ عَلَى الظَّاهِرِ، لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ لِلْإِنْسَانِ أَجْنِحَةٌ فَيُحْمَلُ عَلَى الْخُضُوعِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ، وَقَدْ يَكُونُ مُشْتَرِكًا بَيْنَ حَقِيقَتَيْنِ أَوْ حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ، وَيَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، فَيُحْمَلُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا سَوَاءٌ قُلْنَا بِجَوَازِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي مَعْنَيَيْهِ أَوْ لَا.وَوَجْهُهُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ قَدْ خُوطِبَ بِهِ مَرَّتَيْنِ؛ مَرَّةً أُرِيدَ هَذَا، وَمَرَّةً أُرِيدَ هَذَا.وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ
{وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} [الْبَقَرَة: 282]، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ: لَا يُضَارِرُ الْكَاتِبُ وَالشَّهِيدُ صَاحِبَ الْحَقِّ بِجَوْرٍ فِي الْكِتَابَةِ وَالشَّهَادَةِ.وَلَا يُضَارَرُ- بِالْفَتْحِ- أَيْ: لَا يَضُرُّهُمَا صَاحِبُ الْحَقِّ بِإِلْزَامِهِمَا مَا لَا يَلْزَمُهُمَا، وَإِجْبَارِهِمَا عَلَى الْكِتَابَةِ وَالشَّهَادَةِ.ثُمَّ إِنْ تَوَقَّفَتْ صِحَّةُ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى إِضْمَارٍ سُمِّيَتْ دَلَالَةَ اقْتِضَاءٍ، نَحْو:
{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يُوسُفَ: 82]؛ أَيْ: أَهْلَهَا.وَإِنْ لَمْ تَتَوَقَّفْ، وَدَلَّ اللَّفْظُ عَلَى مَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ سُمِّيَتْ: دَلَالَةَ إِشَارَةٍ كَدَلَالَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [الْبَقَرَة: 187]، عَلَى صِحَّةِ صَوْمِ مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا؛ إِذْ إِبَاحَةُ الْجِمَاعِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ تَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ جُنُبًا فِي جُزْءٍ مِنَ النَّهَارِ، وَقَدْ حُكِيَ هَذَا الِاسْتِنْبَاطُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ.
.فَصْلٌ: الْمَفْهُومُ وَأَقْسَامُهُ:
وَالْمَفْهُومُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ لَا فِي مَحَلِّ النُّطْقِ. وَهُوَ قِسْمَان: مَفْهُومُ مُوَافَقَةٍ، وَمَفْهُومُ مُخَالَفَةٍ.فَالْأَوَّلُ: مَا يُوَافِقُ حُكْمُهُ الْمَنْطُوقَ، فَإِنْ كَانَ أَوْلَى سُمِّي فَحْوَى الْخِطَابِ كَدَلَالَةِ
{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الْإِسْرَاء: 23] عَلَى تَحْرِيمِ الضَّرْبِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ، وَإِنْ كَانَ مُسَاوِيًا سُمِّي لَحْنَ الْخِطَابِ؛ أَيْ مَعْنَاهُ كَدَلَالَةِ
{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النِّسَاء: 10] عَلَى تَحْرِيمِ الْإِحْرَاقِ؛ لِأَنَّهُ مُسَاوٍ لِلْأَكْلِ فِي الْإِتْلَافِ.وَاخْتُلِفَ هَلْ دَلَالَةُ ذَلِكَ قِيَاسِيَّةٌ أَوْ لَفْظِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ أَوْ حَقِيقِيَّةٌ؟ عَلَى أَقْوَالٍ بَيَّنَّاهَا فِي كُتُبِنَا الْأُصُولِيَّةِ.وَالثَّانِي: مَا يُخَالِفُ حُكْمُهُ الْمَنْطُوقَ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ: مَفْهُومُ صِفَةٍ؛ نَعْتًا كَانَ أَوْ حَالًا أَوْ ظَرْفًا أَوْ عَدَدًا، نَحْو:
{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الْحُجُرَات: 6] مَفْهُومُهُ أَنَّ غَيْرَ الْفَاسِقِ لَا يَجِبُ التَّبَيُّنُ فِي خَبَرِهِ، فَيَجِبُ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ.
{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [الْبَقَرَة: 187].
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [الْبَقَرَة: 197]؛ أَيْ: فَلَا يَصِحُّ الْإِحْرَامُ بِهِ فِي غَيْرِهَا.
{فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [الْبَقَرَة: 198]؛ أَيْ: فَالذِّكْرُ عِنْدَ غَيْرِهِ لَيْسَ مُحَصِّلًا لِلْمَطْلُوبِ.
{فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النُّور: 4]؛ أَيْ: لَا أَقَلَّ وَلَا أَكْثَرَ.وَشَرْطٍ، نَحْو:
{وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطَّلَاق: 6]؛ أَيْ: فَغَيْرُ أُولَاتِ الْحَمْلِ لَا يَجِبُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِنَّ.وَغَايَةٍ، نَحْو:
{فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [الْبَقَرَة: 230]؛ أَيْ: فَإِذَا نَكَحَتْهُ تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ بِشَرْطِهِ.وَحَصْرٍ، نَحْو:
{لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [الصَّافَّات: 35]،
{إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ} [طَه: 98]؛ أَيْ: فَغَيْرُهُ لَيْسَ بِإِلَهٍ،
{فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} [الشُّورَى: 9]؛ أَيْ: فَغَيْرُهُ لَيْسَ بِوَلِيٍّ،
{لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 158]؛ أَيْ: لَا إِلَى غَيْرِهِ.
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الْفَاتِحَة: 5]؛ أَيْ: لَا غَيْرَكَ.وَاخْتُلِفَ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهَذِهِ الْمَفَاهِيمِ حُكْمُهُ عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ وَالْأَصَحُّ فِي الْجُمْلَةِ أَنَّهَا كُلَّهَا حُجَّةٌ بِشُرُوطٍ.مِنْهَا: أَنْ لَا يَكُونَ الْمَذْكُورُ خَرَجَ لِلْغَالِبِ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَعْتَبِرِ الْأَكْثَرُونَ مَفْهُومَ قَوْلِه:
{وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النِّسَاء: 23]، فَإِنَّ الْغَالِبَ كَوْنُ الرَّبَائِبِ فِي حُجُورِ الْأَزْوَاجِ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا خُصَّ بِالذِّكْرِ لِغَلَبَةِ حُضُورِهِ فِي الذِّهْنِ.وَأَنْ لَا يَكُونُ مُوَافِقًا لِلْوَاقِعِ وَمِنْ ثَمَّ لَا مَفْهُومَ لِقَوْلِه:
{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [الْمُؤْمِنُونَ: 117]، وَقَوْلِه:
{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 28]، وَقَوْلِه:
{وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النُّور: 33]، وَالِاطِّلَاعُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ فَوَائِدَ مَعْرِفَةِ أَسْبَابِ النُّزُولِ.فَائِدَةٌ: قَالَ بَعْضُهُمُ: الْأَلْفَاظُ إِمَّا أَنْ تَدُلَّ بِمَنْطُوقِهَا أَوْ بِفَحْوَاهَا وَمَفْهُومِهَا أَوْ بِاقْتِضَائِهَا وَضَرُورَتِهَا أَوْ بِمَعْقُولِهَا الْمُسْتَنْبَطِ مِنْهَا، حَكَاهُ ابْنُ الْحَصَّار: وَقَالَ: هَذَا كَلَامٌ حَسَنٌ.قُلْتُ: فَالْأَوَّلُ: دَلَالَةُ الْمَنْطُوقِ، وَالثَّانِي: دَلَالَةُ الْمَفْهُومِ، وَالثَّالِثُ: دَلَالَةُ الِاقْتِضَاءِ، وَالرَّابِعُ: دَلَالَةُ الْإِشَارَةِ.
.النَّوْعُ الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ: فِي وُجُوهِ مُخَاطَبَاتِهِ:
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ النَّفِيس: الْخِطَابُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ وَجْهًا.وَقَالَ غَيْرُهُ: عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ وَجْهًا.أَحَدُهَا خِطَابُ الْعَامِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْعُمُومُ كَقَوْلِه:
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [الرُّوم: 54].وَالثَّانِي: خِطَابُ الْخَاصِّ وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ كَقَوْلِه:
{أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 106]،
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ} [الْمَائِدَة: 67].الثَّالِثُ: خِطَابُ الْعَامِّ وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ كَقَوْلِه:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [الْحَجّ: 1]، لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْأَطْفَالُ وَالْمَجَانِينُ.الرَّابِعُ: خِطَابُ الْخَاصِّ وَالْمُرَادُ الْعُمُومُ كَقَوْلِه:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطَّلَاق: 1]، افْتَتَحَ الْخِطَابَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ سَائِرُ مَنْ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ، وَقوله:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الْأَحْزَاب: 50]، الْآيَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ: كَانَ ابْتِدَاءُ الْخِطَابِ لَهُ فَلَمَّا قَالَ فِي الْمَوْهُوبَةِ
{خَالِصَةً لَكَ} [الْأَحْزَاب: 50] عُلِمَ أَنَّ مَا قَبْلَهَا لَهُ وَلِغَيْرِهِ.الْخَامِسُ: خِطَابُ الْجِنْسِ كَقَوْلِه:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}.السَّادِسُ: خِطَابُ النَّوْع: نَحْو:
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}.السَّابِعُ: خِطَابُ الْعَيْنِ، نَحْو:
{وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ} [الْبَقَرَة: 65]،
{يَا نُوحُ اهْبِطْ} [هُودٍ: 48]،
{يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ} [الصَّافَّات: 104، 105]،
{يَا مُوسَى لَا تَخَفْ} [النَّمْل: 10].
{يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [آلِ عِمْرَانَ: 55]، وَلَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ الْخِطَابُ بِيَا مُحَمَّدُ بَلْ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ، يَا أَيُّهَا الِرَسُولُ؛ تَعْظِيمًا لَهُ وَتَشْرِيفًا وَتَخْصِيصًا بِذَلِكَ عَمَّا سِوَاهُ، وَتَعْلِيمًا لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يُنَادُوهُ بِاسْمِهِ.الثَّامِنُ: خِطَابُ الْمَدْحِ، نَحْو:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الْبَقَرَة: 104]، وَلِهَذَا وَقَعَ الْخِطَابُ بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا} [الْأَنْفَال: 74].أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ خَيْثَمَةَ قَالَ: مَا تَقْرَءُونَ فِي الْقُرْآنِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ 30 فَإِنَّهُ فِي التَّوْرَاة: يَا أَيُّهَا الْمَسَاكِينُ.وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَأَرْعِهَا سَمْعَكَ فَإِنَّهُ خَيْرٌ يُؤْمَرُ بِهِ أَوْ شَرٌّ يُنْهَى عَنْهُ.التَّاسِعُ: خِطَابُ الذَّمِّ، نَحْو:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} [التَّحْرِيم: 7]،
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الْكَافِرُونَ: 1]، وَلِتَضَمُّنِهِ الْإِهَانَةَ لَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ، وَأَكْثَرُ الْخِطَابِ بِـ:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} عَلَى الْمُوَاجَهَةِ، وَفِي جَانِبِ الْكُفَّارِ جِيءَ بِلَفْظِ الْغَيْبَةِ إِعْرَاضًا عَنْهُمْ كَقَوْلِه:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الْبَقَرَة: 6]،
{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [الْأَنْفَال: 38].الْعَاشِرُ: خِطَابُ الْكَرَامَةِ كَقَوْلِه:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}،
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} قَالَ بَعْضُهُمْ: وَنَجِدُ الْخِطَابَ بِالنَّبِيِّ فِي مَحَلٍّ لَا يَلِيقُ بِهِ الرَّسُولُ، وَكَذَا عَكْسُهُ فِي الْأَمْرِ بِالتَّشْرِيعِ الْعَامِّ
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الْمَائِدَة: 67]، وَفِي مَقَامِ الْخَاصِّ
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التَّحْرِيم: 1]، قَالَ: وَقَدْ يُعَبَّرُ بِالنَّبِيِّ فِي مَقَامِ التَّشْرِيعِ الْعَامِّ لَكِنْ مَعَ قَرِينَةِ إِرَادَةِ الْعُمُومِ كَقَوْلِه:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ} [الطَّلَاق: 1]، وَلَمْ يَقُلْ: طَلَّقْتَ.الْحَادِي عَشَرَ: خِطَابُ الْإِهَانَةِ، نَحْو:
{فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} [الْحِجْر: 34]،
{اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [الْمُؤْمِنُونَ: 108].الثَّانِي عَشَرَ: خِطَابُ التَّهَكُّمِ، نَحْو:
{ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدُّخَان: 49].الثَّالِثَ عَشَرَ: خِطَابُ الْجَمْعِ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ، نَحْو:
{يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الِانْفِطَار: 6].الرَّابِعَ عَشَرَ: خِطَابُ الْوَاحِدِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، نَحْو:
{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [الْمُؤْمِنُونَ: 51]، إِلَى قَوْلِه:
{فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} [الْمُؤْمِنُونَ: 54]، فَهُوَ خِطَابٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ؛ إِذْ لَا نَبِيَّ مَعَهُ وَلَا بَعْدَهُ، وَكَذَا قوله:
{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا} الْآيَةَ [النَّحْل: 126] خِطَابٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ بِدَلِيلِ قَوْلِه:
{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} الْآيَةَ [النَّحْل: 127]، وَكَذَا قوله:
{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا} [هُودٍ: 14]، بِدَلِيلِ قَوْلِه: قُلْ فَأْتُوا. وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ:
{قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [الْمُؤْمِنُونَ: 99]؛ أَي: ارْجِعْنِي. وَقِيلَ: رَبِّ خِطَابٌ لَهُ تَعَالَى، وَارْجِعُونِ لِلْمَلَائِكَةِ.وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: هُوَ قَوْلُ مَنْ حَضَرَتْهُ الشَّيَاطِينُ وَزَبَانِيَةُ الْعَذَابِ، فَاخْتَلَطَ فَلَا يَدْرِي مَا يَقُولُ مِنَ الشَّطَطِ، وَقَدِ اعْتَادَ أَمْرًا يَقُولُهُ فِي الْحَيَاةِ مِنْ رَدِّ الْأَمْرِ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ.الْخَامِسَ عَشَرَ: خِطَابُ الْوَاحِدِ بِلَفْظِ الِاثْنَيْنِ، نَحْو:
{أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق: 24]، وَالْخِطَابُ لِمَالِكٍ خَازِنِ النَّارِ، وَقِيلَ: لِخَزَنَةِ النَّارِ وَالزَّبَانِيَةِ فَيَكُونُ مِنْ خِطَابِ الْجَمْعِ بِلَفْظِ الِاثْنَيْنِ. وَقِيلَ: لِلْمَلَكَيْنِ الْمُوَكَّلَيْنِ فِي قَوْلِه:
{وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق: 21]، فَيَكُونُ عَلَى الْأَصْلِ.وَجَعَلَ الْمَهْدَوِيُّ مِنْ هَذَا النَّوْعِ قَالَ:
{قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يُونُسَ: 89]، قَالَ: الْخِطَابُ لِمُوسَى وَحَدَهُ؛ لِأَنَّهُ الدَّاعِي وَقِيلَ: لَهُمَا لِأَنَّ هَارُونَ أَمَّنَ عَلَى دُعَائِهِ وَالْمُؤَمِّنُ أَحَدُ الدَّاعِيَيْنِ.السَّادِسَ عَشَرَ: خِطَابُ الِاثْنَيْنِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِه:
{فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طَه: 49]؛ أَيْ: وَيَا هَارُونُ وَفِيهِ وَجْهَان: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَفْرَدَهُ بِالنِّدَاءِ لِإِدْلَالِهِ عَلَيْهِ بِالتَّرْبِيَةِ.وَالْآخَرُ: لِأَنَّهُ صَاحِبُ الرِّسَالَةِ وَالْآيَاتِ، وَهَارُونُ تَبَعٌ لَهُ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ.وَذُكِرَ فِي الْكَشَّافِ آخَرُ: وَهُوَ أَنْ هَارُونَ لَمَّا كَانَ أَفْصَحَ مِنْ مُوسَى نَكَبَ فِرْعَوْنُ عَنْ خِطَابِهِ حَذَرًا مِنْ لِسَانِهِ. وَمَثْلُهُ
{فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طَه: 177]، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَفْرَدَهُ بِالشَّقَاءِ لِأَنَّهُ الْمُخَاطَبُ أَوَّلًا وَالْمَقْصُودُ فِي الْكَلَامِ.وَقِيلَ: لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الشَّقَاءَ فِي مَعِيشَةِ الدُّنْيَا فِي جَانِبِ الرَّجَالِ.وَقِيلَ: إِغْضَاءٌ عَنْ ذِكْرِ الْمَرْأَةِ كَمَا قِيلَ: مِنَ الْكَرَمِ سَتْرُ الْحَرَمِ.السَّابِعَ عَشَرَ: خِطَابُ الِاثْنَيْنِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ كَقَوْلِه:
{وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ} [يُونُسَ: 87].الثَّامِنَ عَشَرَ: خِطَابُ الْجَمْعِ بِلَفْظِ الِاثْنَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي:
{الْقِيَا} [ق: 24].التَّاسِعَ عَشَرَ: خِطَابُ الْجَمْعِ بَعْدَ الْوَاحِدِ كَقَوْلِه:
{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} [يُونُسَ: 61]، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيّ: جَمَعَ فِي الْفِعْلِ الثَّالِثِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْأُمَّةَ دَاخِلُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِثْلُهُ
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطَّلَاق: 1].الْعِشْرُونَ: عَكْسُهُ، نَحْو:
{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الْبَقَرَة: 43]،
{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [يُونُسَ: 87].الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: خِطَابُ الِاثْنَيْنِ بَعْدَ الْوَاحِدِ، نَحْو:
{أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ} [يُونُسَ: 78].الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: عَكْسُهُ، نَحْو:
{فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طَه: 49].الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: خِطَابُ الْعَيْنِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْغَيْرُ، نَحْو:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} [الْأَحْزَاب: 1]. الْخِطَابُ لَهُ وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ تَقِيًّا وَحَاشَاهُ مِنْ طَاعَةِ الْكُفَّارِ. وَمِنْهُ:
{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ} الْآيَةَ [يُونُسَ: 94]. حَاشَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الشَّكِّ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالْخِطَابِ التَّعْرِيضُ بِالْكُفَّارِ.أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: لَمْ يَشُكَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَسْأَلْ، وَمِثْلُهُ
{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} الْآيَةَ [الزُّخْرُف: 45].
{فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الْأَنْعَام: 35]، وَأَنْحَاءُ ذَلِكَ.الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: خِطَابُ الْغَيْرِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْعَيْنُ، نَحْو:
{لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الْأَنْبِيَاء: 10].الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: الْخِطَابُ الْعَامُّ الَّذِي لَمْ يُقْصَدُ بِهِ مُخَاطَبٌ مُعَيَّنٌ، نَحْو:
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ} [الْحَجّ: 18].
{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} [الْأَنْعَام: 27].
{وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ} [السَّجْدَة: 12] لَمْ يُقْصَدْ بِذَلِكَ خِطَابٌ مُعَيَّنٌ بَلْ كَلُّ أَحَدٍ، وَأُخْرِجَ فِي صُورَةِ الْخِطَابِ لِقَصْدِ الْعُمُومِ، يُرِيدُ أَنَّ حَالَهُمْ تَنَاهَتْ فِي الظُّهُورِ بِحَيْثُ لَا يَخْتَصُّ بِهَا رَاءٍ دُونَ رَاءٍ، بَلْ كُلُّ مَنْ أَمْكَنَ مِنْهُ الرُّؤْيَةُ دَاخِلٌ فِي ذَلِكَ الْخِطَابِ.السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: خِطَابُ الشَّخْصِ ثُمَّ الْعُدُولُ إِلَى غَيْرِهِ، نَحْو:
{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} [هُودٍ: 14]، خُوطِبَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ لِلْكُفَّار:
{فَاعْلَمُوا أَنَمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هُودٍ: 14]، بِدَلِيل:
{فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هُودٍ: 14]، وَمِنْهُ:
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا} [الْفَتْح: 8]، إِلَى قَوْلِهِ
{لِتُؤْمِنُوا} [الْفَتْح: 9] فِي مَنْ قَرَأَ بِالْفَوْقِيَّةِ.السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: خِطَابُ التَّلْوِينِ وَهُوَ الِالْتِفَاتُ.الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: خِطَابُ الْجَمَادَاتِ خِطَابُ مَنْ يَعْقِلُ، نَحْو:
{فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [فُصِّلَتْ: 11].التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: خِطَابُ التَّهْيِيجِ، نَحْو:
{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الْمَائِدَة: 23].الثَّلَاثُونَ: خِطَابُ التَّحَنُّنِ وَالِاسْتِعْطَافِ، نَحْو:
{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا} [الزُّمَر: 53].الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: خِطَابُ التَّحَبُّبِ، نَحْو:
{يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ} [مَرْيَمَ: 42].
{يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ} [لُقْمَانَ: 16].
{يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي} [طَه: 94].الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: خِطَابُ التَّعْجِيزِ، نَحْو:
{فَأْتُوا بِسُورَةٍ} [الْبَقَرَة: 23].الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: خِطَابُ التَّشْرِيفِ وَهُوَ كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مُخَاطَبَةً بِـ: (قُلْ) فَإِنَّهُ تَشْرِيفٌ مِنْهُ تَعَالَى لِهَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَنْ يُخَاطِبَهَا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ لِتَفُوزَ بِشَرَفِ الْمُخَاطَبَةِ.الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: خِطَابُ الْمَعْدُومِ وَيَصِحُّ ذَلِكَ تَبَعًا لِمَوْجُودٍ، نَحْوُ: يَا بَنِي آدَمَ فَإِنَّهُ خِطَابٌ لِأَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَلِكُلِّ مَنْ بَعْدَهُمْ.فَائِدَةٌ:قَالَ بَعْضُهُمْ: خِطَابُ الْقُرْآنِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِسْمٌ لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِغَيْرِهِ، وَقِسْمٌ لَهُمَا.فَائِدَةٌ:قَالَ ابْنُ الْقَيِّم: تَأْمَّلْ خِطَابَ الْقُرْآنِ تَجِدْ مَلِكًا لَهُ الْمُلْكُ كُلُّهُ، وَلَهُ الْحَمْدُ كُلُّهُ، أَزِمَّةُ الْأُمُورِ كُلُّهَا بِيَدِهِ، وَمَصْدَرُهَا مِنْهُ وَمَوْرِدُهَا إِلَيْهِ، مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ مِنْ أَقْطَارِ مَمْلَكَتِهِ، عَالِمًا بِمَا فِي نُفُوسِ عَبِيدِهِ، مُطَّلِعًا عَلَى أَسْرَارِهِمْ وَعَلَانِيَتِهِمْ، مُنْفَرِدًا بِتَدْبِيرِ الْمَمْلَكَةِ، يَسْمَعُ وَيَرَى وَيُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَيُثِيبُ وَيُعَاقِبُ، وَيُكْرِمُ وَيُهِينُ، وَيَخْلُقُ وَيَرْزُقُ، وَيُمِيتُ وَيُحْيِي، وَيُقَدِّرُ وَيَقْضِي وَيُدَبِّرُ الْأُمُورَ نَازِلَةً مِنْ عِنْدِهِ دَقِيقَهَا وَجَلِيلَهَا وَصَاعِدَةً إِلَيْهِ لَا تَتَحَرَّكُ ذَرَّةٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا تَسْقُطُ وَرَقَةٌ إِلَّا بِعِلْمِهِ.فَتَأَمَّلْ كَيْفَ تَجِدُهُ يُثْنِي عَلَى نَفْسِهِ، وَيُمَجِّدُ نَفْسَهُ، وَيَحْمَدُ نَفْسَهُ، وَيَنْصَحُ عِبَادَهُ، وَيَدُلُّهُمْ عَلَى مَا فِيهِ سَعَادَتُهُمْ وَفَلَاحُهُمْ، وَيُرَغِّبُهُمْ فِيهِ وَيُحَذِّرُهُمْ مِمَّا فِيهِ هَلَاكُهُمْ، وَيَتَعَرَّفُ إِلَيْهِمْ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَيَتَحَبَّبُ إِلَيْهِمْ بِنِعَمِهِ وَآلَائِهِ، يُذَكِّرُهُمْ بِنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ، وَيَأْمُرُهُمْ بِمَا يَسْتَوْجِبُونَ بِهِ تَمَامَهَا، وَيُحَذِّرُهُمْ مَنْ نِقَمِهِ، وَيُذَكِّرُهُمْ بِمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ إِنْ أَطَاعُوهُ وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ إِنْ عَصَوْهُ، وَيُخْبِرُهُمْ بِصُنْعِهِ فِي أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ، وَكَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَةُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، وَيُثْنِي عَلَى أَوْلِيَائِهِ بِصَالِحِ أَعْمَالِهِمْ وَأَحْسَنِ أَوْصَافِهِمْ، وَيَذُمُّ أَعْدَاءَهُ بِسَيِّئِ أَعْمَالِهِمْ وَقَبِيحِ صِفَاتِهِمْ، وَيَضْرِبُ الْأَمْثَالَ، وَيُنَوِّعُ الْأَدِلَّةَ وَالْبَرَاهِينَ، وَيُجِيبُ عَنْ شُبَهِ أَعْدَائِهِ أَحْسَنَ الْأَجْوِبَةِ، وَيُصَدِّقُ الصَّادِقَ، وَيَكْذِّبُ الْكَاذِبَ، وَيَقُولُ الْحَقَّ وَيَهْدِي السَّبِيلَ وَيَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ، وَيَذْكُرُ أَوْصَافَهَا وَحُسْنَهَا وَنَعِيمَهَا، وَيُحَذِّرُ مِنْ دَارِ الْبَوَارِ وَيَذْكُرُ عَذَابَهَا وَقُبْحَهَا وَآلَامَهَا، وَيُذَكِّرُ عِبَادَهُ فَقْرَهُمْ إِلَيْهِ وَشَدَّةَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَأَنَّهُمْ لَا غِنَى لَهُمْ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَيُذَكِّرُهُمْ غِنَاهُ عَنْهُمْ وَعَنْ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ، وَأَنَّهُ الْغَنِيُّ بِنَفْسِهِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا يَنَالُ أَحَدٌ ذَرَّةً مِنَ الْخَيْرِ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَلَا ذَرَّةً مِنَ الشَّرِّ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا بِعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَتَشْهَدُ مِنْ خِطَابِهِ عِتَابَهُ لِأَحْبَابِهِ أَلْطَفَ عِتَابٍ، وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ مُقِيلٌ عَثَرَاتِهِمْ، وَغَافِرٌ ذِلَّاتِهِمْ وَمُقِيمٌ أَعْذَارَهُمْ وَمُصْلِحٌ فَسَادَهُمْ، وَالدَّافِعُ عَنْهُمْ وَالْمُحَامِي عَنْهُمْ، وَالنَّاصِرُ لَهُمْ وَالْكَفِيلُ بِمَصَالِحِهِمْ، وَالْمُنَجِّي لَهُمْ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ، وَالْمُوَفِّي لَهُمْ بِوَعْدِهِ، وَأَنَّهُ وَلِيُّهُمُ الَّذِي لَا وَلِيَّ لَهُمْ سِوَاهُ، فَهُوَ مَوْلَاهُمُ الْحَقُّ وَيَنْصُرُهُمْ عَلَى عَدْوِّهِمْ فَنِعَمَ الْمَوْلَى وَنَعِمَ النَّصِيرُ.وَإِذَا شَهِدَتِ الْقُلُوبُ مِنَ الْقُرْآنِ مَلِكًا عَظِيمًا، جَوَادًا رَحِيمًا جَمِيلًا، هَذَا شَأْنُهُ فَكَيْفَ لَا تُحِبُّهُ وَتُنَافِسُ فِي الْقُرْبِ مِنْهُ، وَتُنْفِقُ أَنْفَاسَهَا فِي التَّوَدُّدِ إِلَيْهِ، وَيَكُونُ أَحَبَّ إِلَيْهَا مَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَرِضَاهُ آثَرَ عِنْدَهَا مِنْ رِضَا كُلِّ مَنْ سِوَاهُ! وَكَيْفَ لَا تَلْهَجُ بِذِكْرِهِ وَتُصَيِّرُ حُبَّهُ وَالشَّوْقَ إِلَيْهِ وَالْأُنْسَ بِهِ هُوَ غِذَاؤُهَا وَقُوَّتُهَا وَدَوَاؤُهَا، بِحَيْثُ إِنْ فَقَدَتْ ذَلِكَ فَسَدَتْ وَهَلَكَتْ وَلَمْ تَنْتَفِعْ بِحَيَاتِهَا.فَائِدَةٌ:قَالَ بَعْضُ الْأَقْدَمِينَ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى ثَلَاثِينَ، نَحْوًا، كُلُّ نَحْوٍ مِنْهُ غَيْرُ صَاحِبِهِ، فَمَنْ عَرَفَ وُجُوهَهَا ثُمَّ تَكَلَّمَ فِي الدِّينِ أَصَابَ وَوُفِّقَ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ وَتَكَلَّمَ فِي الدِّينِ كَانَ الْخَطَأُ إِلَيْهِ أَقْرَبَ، وَهِيَ: الْمَكِّيُّ وَالْمَدَنِيُّ، وَالنَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ، وَالْمُحْكَمُ وَالْمُتَشَابِهُ، وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ، وَالْمَقْطُوعُ وَالْمَوْصُولُ، وَالسَّبَبُ وَالْإِضْمَارُ، وَالْخَاصُّ وَالْعَامُّ، وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ، وَالْحُدُودُ وَالْأَحْكَامُ، وَالْخَبَرُ وَالِاسْتِفْهَامُ وَالْأُبَّهَةُ، وَالْحُرُوفُ الْمُصَرَّفَةُ، وَالْإِعْذَارُ وَالْإِنْذَارُ، وَالْحُجَّةُ وَالِاحْتِجَاجُ، وَالْمَوَاعِظُ وَالْأَمْثَالُ وَالْقَسَمُ.قَالَ: فَالْمَكِّيُّ مِثْلُ:
{وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [الْمُزَّمِّل: 10]، وَالْمَدَنِيُّ مِثْلُ:
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الْبَقَرَة: 190]، وَالنَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ وَاضِحٌ.وَالْمُحْكَمُ مِثْلُ:
{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} الْآيَةَ [النِّسَاء: 93]،
{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النِّسَاء: 10]، وَنَحْوُهُ مِمَّا أَحْكَمَهُ اللَّهُ وَبَيَّنَهُ.وَالْمُتَشَابِهُ مِثْلُ:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} الْآيَةَ [النُّور: 27]، وَلَمْ يَقُلْ:
{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا} [النِّسَاء: 30]، كَمَا قَالَ فِي الْمُحْكَمِ، وَقَدْ نَادَاهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْإِيمَانِ وَنَهَاهُمْ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَلَمْ يَجْعَلْ فِيهَا وَعِيدًا فَاشْتَبَهَ عَلَى أَهْلِهَا مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِهِمْ.وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ مِثْلُ:
{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [الْبَقَرَة: 180]، التَّقْدِيرُ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْوَصِيَّةُ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ.وَالْمَقْطُوعُ وَالْمَوْصُولُ مِثْلُ:
{لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الْقِيَامَة: 1]، فَـ: (لَا) مَقْطُوعٌ مِنْ أُقْسِمُ وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْمَعْنَى: أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ
{وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [الْقِيَامَة: 2]، وَلَمْ يُقْسِمْ.وَالسَّبَبُ وَالْإِضْمَارُ مِثْلُ:
{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يُوسُفَ: 82]؛ أَيْ: أَهْلَ الْقَرْيَةِ.وَالْخَاصُّ وَالْعَامُّ مِثْلُ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ فَهَذَا فِي الْمَسْمُوعِ خَاصٌّ
{إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطَّلَاق: 1]، فَصَارَ فِي الْمَعْنَى عَامًّا.وَالْأَمْرُ وَمَا بَعْدَهُ إِلَى الِاسْتِفْهَامِ أَمْثِلَتُهَا وَاضِحَةٌ.وَالْأُبَّهَةُ مِثْلُ:
{إِنَّا أَرْسَلْنَا} [نُوحٍ: 1]،
{نحْنُ قَسَمْنَا} [الزُّخْرُف: 32]، عَبَّرَ بِالصِّيغَةِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْجَمَاعَةِ لِلْوَاحِدِ تَعَالَى تَفْخِيمًا وَتَعْظِيمًا وَأُبَّهَةً.وَالْحُرُوفُ الْمُصَرَفَةُ كَالْفِتْنَةِ تُطْلَقُ عَلَى الشِّرْكِ، نَحْوُ:
{حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [الْبَقَرَة: 193].وَعَلَى الْمَعْذِرَةِ، نَحْوُ:
{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} [الْأَنْعَام: 23]؛ أَيْ: مَعْذِرَتُهُمْ.وَعَلَى الِاخْتِبَارِ، نَحْو:
{قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ} [طَه: 85]. وَالِاعْتِذَارُ، نَحْو:
{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ} [الْمَائِدَة: 13]. اعْتَذَرَ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ إِلَّا بِمَعْصِيَتِهِمْ. وَالْبَوَاقِي أَمْثِلَتُهَا وَاضِحَةٌ.